من آخر ما نزل من القرآن سورة المائدة، افتتحها سبحانه وتعالى بذكر نعمة امتن بها على أمة محمد صلى الله عليه وسلم. جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال : يا أمير المؤمنين ، إنكم تقرءون آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا ، فقال : أي آية هي ؟ قال:اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي، فقال عمر : والله ، إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والساعة التي نزلت فيها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشية يوم عرفة ، في يوم جمعة . رواه البخاري
إن الشريعة المحمدية هي آخر الشرائع التي أنزلها الله على عباده وهي الشريعة الكاملة، فكمال الدين يعنى أنه لا مجال لدخول شرائع أو أنظمة آخرى لأتمام هذا الدين وتكميله أو تحسينه وتجويده. فالكمال يعنى أن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم مستغنية بذاتها عن غيرها، وغيرها محتاج اليها. ومن هنا، فإن ما تنص عليه أغلب الدساتير العربية من أن الشريعة الاسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع أو انها مصدر من مصادر التشريع، فيه على اقل تقدير-عند أخذنا الامور بحسن نية- عدم فهم لطبيعة الشريعة المحمدية، وفيه مخالفة لمعنى كمال الدين وتمامه.
الكمال يعنى أن أي تطبيق حياتي في مجال التشريع والأنظمة خارج عن نطاق هذه الشريعة فهو ولابد استبدال الأدنى بالذي هو خير. فأي تشريع أو نظام يخالف الشريعة المحمدية هو أخذ بالأدنى وترك ما أنعم الله به علينا من شرائع وتطبيقات حياتية توافق الفطرة وتدعو الى الفضيلة في المجتمع المسلم. خذ مثالا على ذلك : المطالبات بتحرير المرأة من الحجاب، واستبدال احكام الصلح والجهاد وأحكام أهل الجزية بالمعاهدات الدولية والقانون الدولي، وتبني النظام الرأسمالي في البنوك المركزية في الدول الاسلامية ودعمها لركنه الركين (الربا) ، كل ذلك يدل على أن من قام بذلك لا يعتقد أن الدين كامل وتام.
الكمال يعنى أن دين محمد صلى الله عليه وسلم كامل في عباداته ومعاملاته وأنظمته. فأي عبادة تُستحدث تقربا لله هي في حقيقتها استنقاص لشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، فبدع المولد وزيارة الاولياء والذبح لهم طلبا لنفعهم والعون والمدد منهم، والقول بأن القرآن مخلوق وغير منزل، كل ذلك دليل على أن من فعل ذلك يرى أن محمد صلى الله عليه وسلم لم يبلغنا الشريعة كاملة أو أنه يستدرك على الشريعة بزعمه –فعليا- أن الشريعة غير كاملة مع أن الله تعالى قال :"اليوم أكملت لكم دينكم". كما أن أي معاملات تخرج عن القواعد الشرعية المبثوثة في أرجاء هذا الدين هي معاملات لا تأتي الا بالدمار والفساد للمجتمع التي تمارس فيه تلك المعاملات. فالتأمين على الحياة والمقامرات المبثوثة في القنوات الفضائية والدعايات التسويقية الكاذبة تغريرا للناس التي ملؤها الغرر، كل ذلك يقوض أركان المجتمع المسلم الحياتية (اجتماعية ، اقتصادية، سلوكية) . كما أن أي احكام وأنظمة تستمد من شرائع غير دين الاسلام هي حكم بالطاغوت وايمان به، فعدم جلد الزانية والزاني غير المحصنين وعدم قطع يد السارق بحجة أن هذه احكام تخالف الاعراف الدولية والحضارة والتمدن، والاكتفاء بالسجن والتغريم المالي أو عدم العقوبة عند التراضي مع ثبوت تلك الافعال هو رضى بحكم الطاغوت وعدم رضى بدين الله "أفغير دين الله يبغون؟".
الله تبارك وتعالى قرر بعبارة محكمة صريحة لا تحتمل التأويل أن هذا الدين كاملُ لا يعتريه نقص، تام من جميع النواحي، فهو كاملُ من حيث صلاحيته لكل زمان ومكان ، مع قابليته لمواكبة تطور الحياة وتعقيداتها، يقول الله تعالى:"فإن تنازعتم في شئ فرده الى الله والرسول" أي القرآن والسنة.
الكمال يعني أن هذه الشريعة المحمدية شريعة شاملة مستوفية لجميع جوانب الحياة فعالجة أحكام الافراد والمجتمعات، والنساء والرجال، والعبادات والمعاملات، والاموال والاعراض، والسوكيات والاخلاق، والنظافة والبيئة، واحكام الحيوان، والعلاقات الدولية واحكام السلم والحرب، والعقائد والشرائع، وأحكام الكافرين في ديار المسلمين، وأحكام السفر والاقامة، الى غير ذلك من جوانب الحياة المترامية الاطراف وعلى جميع مستوياتها وخلال جميع أزمانها.
عجيبة تلك الشريعة المحمدية الكاملة بكمال مُنزلها ورضاه عنها، فاللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك أن جعلتني من أمة محمد صلى الله عليه وسلم وجعلتني ممن رضوا بك ربا وبالاسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا.